الثلاثاء، 3 أبريل 2012

ملامح أوّليّة لخارطة طريق على درب إصلاح منظومتنا التربويّة

بدعوة من وزارة التربيّة انعقدت بتونس أيّام 29-30-31 مارس 2012 الندوة الوطنيّة حول منهجيّة إصلاح المنظومة التربويّة قصد رسم خارطة طريق تبلور خطوات واثقة في اتجاه تحقيق إصلاح عميق ينسجم مع أهداف ثورة الشعب التونسي المجيدة ويفضي إلى بناء منظومة تربويّة جديدة يشارك جميع الأطراف في رسم ملامحها وتركيز أسسها عبر وفاق اجتماعي تكون فيه الأولويّة المطلقة للوطن واستحقاقات ثورة شعبه
وقد تميّز الإعداد لهذه الندوة بوفرة مطالب تقديم مداخلات، من الداخل والخارج، حول مختلف الإشكاليات الواردة بالورقة العلميّة، وانتهى اجتهاد اللجنة العلميّة إلى وضع البرنامج الذي تابعه الحضور بانتباه دائم ومثابرة شديدة وحماس مستمرّ رغم كثافة المادّة العلميّة وكثرة المداخلات طيلة الأيّام الثلاثة للندوة.
كما تميّزت الندوة بنوعيّة الحضور الذي شمل التلاميذ وكلّ أصناف المربّين والمدرسين والمتفقدين والمرشدين التربويين ومستشاري الإعلام والتوجيه المدرسي والجامعي والإداريين والباحثين والجامعيين والخبراء من كلّ الجهات، انضمّ إليهم ممثلون عن المجلس الوطني التأسيسي وممثلون عن الأحزاب والمنظّمات والنقابات ذات الصلة وممثّلو بعض مكوّنات المجتمع المدني فضلا عن بعض سفراء الدول الشقيقة والصديقة وبعض الشخصيات الوطنيّة التي لبّت دعوة الوزارة للحضور.
لقد حضر الجميع من أجل الإسهام في رسم نهج الإصلاح الذي لن تكتمل ملامحه إلاّ بعد مناقشة حصيلة أعمال هذه الندوة محليّا وجهويّا عبر مشاركة فعليّة لجميع الفاعلين الميدانيين، كما جاء في كلمة السيّد وزير التربيّة الأستاذ عبد اللطيف عبيد في افتتاح الندوة، حتى يكون إصلاح منظومة الجميع مهمّة يضطلع بها الجميع وتبدأ خطوتها الأولى من هذه الندوة الوطنيّة، تليها خطوات أخرى على الصعيدين المحلّي والجهوي.
وقد تعزّز  هذا المطلب بما ورد في كلمة السيد رئيس الحكومة الأستاذ حمّادي الجبالي الذي افتتح الندوة مذكّرا بالنجاحات النوعيّة والكميّة التي حقّقتها المنظومة التربويّة بفضل تعميم التعليم والتعلّم المجاني ومشيرا إلى ” ما يشبه الإجماع (…) على أنّ منظومتنا التربويّة تشكو عللا عديدة تحتاج إلى علاج ينبغي أن يكون عميقا مدروسا بعيدا عن التوظيف السياسي وتلميع الصّورة “، وأكّد أن تلك العلل تبرز خاصّة في الانقطاع المدرسي الذي يهدّد بالارتداد إلى الأميّة وكذلك في تدنّي جودة التعليم تحصيلا وتدريسا وفي فشل المنظومة التربويّة على مستوى التنشئة الاجتماعيّة والوطنيّة والتربية على القيم، وعجزها الحالي عن معالجة معضلة الهوّة التي تفصل مكوّناتها المختلفة عن سوق الشغل وواقع البلاد الاقتصادي والاجتماعي، ممّا يستوجب إصلاحا يستوعب ما تراكم من جهود الإصلاح والتحديث في التجربة التونسيّة ويجعل من التربيّة  قاطرة التقدم وسبيل النهوض الحضاري على قاعدة مبدإ تكافؤ الفرص ومجانيّة التعليم وديمقراطيّته. ويكون ذلك بالتعجيل أوّلا بمعالجة قضيّة الامتحانات المدرسيّة وما يتصل بها من مصداقيّة الشهائد العلميّة، وثانيا التخطيط المحكم لتكوين المدرسين وإعدادهم الإعداد الجيّد العلميّ والصناعيّ باعتبارهم عماد المنظومة التربويّة، وثالثا إحكام العلاقة بين المنظومة التربويّة ومنظومة التكوين المهني ومنظومة التعليم العالي والبحث العلمي بما يؤمّن تنمية الموارد البشريّة على أفضل الوجوه.
       وبعد جلسة الافتتاح، انتظمت أعمال الندوة، على مدى ثلاثة أيام، ضمن ثلاثة محاور أساسيّة هي على التوالي:
  • تشخيص واقع المنظومة التربويّة التونسيّة.
  • التجارب الأجنبيّة والتوجهات الدوليّة والإقليميّة في مجال إصلاح المنظومات التربويّة.
  • أيّة منهجيّة لإصلاح المنظومة التربويّة؟
وقد نوقشت في إطار هذه المحاور، وعلى امتداد سبع جلسات علميّة، خمس وثلاثون ورقة علميّة قدّمها خبراء من تونس ومن بعض الدول (الأردن، الجزائر، المغرب، تركيا،إسبانيا، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا،مالطا) والمنظمات والهيئات الدوليّة والإقليميّة (الألكسو، الإيسسكو، اليونسكو،اليونيسيف، اتحاد دول المغرب العربي،البنك الدولي، المعهد الدولي للتخطيط في التربيّة، الجامعة الأورومتوسّطيّة، المؤسّسة الأروبيّة للتكوين، اللجنة الأروبيّة) والمؤسّسات الأجنبيّة (ميكروسوفت، إنتال).
كما تمّ تنظيم اثني عشر منبر حوار تناولت أهم عناصر المنظومة التربويّة: الامتحانات والتقييم، النظام التأديبي، صعوبات التعلّم والفشل المدرسي، التعليم التقني، التجارب الرّائدة، تكنولوجيات المعلومات والاتصال، الحياة المدرسيّة والتربيّة على ممارسة المواطنة، التوجيه المدرسي، المنظومة التربويّة في عيون تلاميذنا، ذوو الحاجات الخصوصيّة، الزمن المدرسي، تكوين المدرّسين. وعُرضت للنقاش داخل هذه المنابر ثلاث وأربعون ورقة علميّة قدّمتها ثلّة من الخبراء المختصّين التونسيين والأجانب.
اتجاهات النقاش :
      أفرز النقاش الذي دار حول محاور الندوة جملة من القضايا يتعلّق جانب منها بتشخيص واقع المنظومة التربويّة التونسيّة ويتّصل الثاني بمنهجيّة الإصلاح.
في باب التشخيص :               
         في خصوص التشخيص انشدّ الاهتمام في أغلب المداخلات على تأكيد المكاسب التي حقّقتها المنظومة التربويّة التونسيّة وتوقّفت عند الجوانب التاليّة :
  • تأصيل التعليم والتعلّم واعتبارهما شرطا أساسيا للنمو الاقتصادي والاجتماعي ؛
  • اعتبار المؤسسة التربوية نواة للتغيير الاجتماعي ؛
  • انتشار التعليم بتأكيد إجباريته ومجانيته ؛
  • تأسيس مفهوم المواطن التونسي ؛
  • تأسيس مفهوم الذات العارفة بما هي ذات تتعلم كيف تتعلم ؛
  • حضور  ثقافة الاختلاف والنقد  (القانون التوجيهي 2002 ) ؛
  • تأكيد التفتح على الحداثة ضمن رؤية تقوم على الوعي بالهوية الوطنية والانتماء الحضاري العربي والإسلامي خاصّة والإنساني عامّة ؛
  • حضور القيم الحقوقية الكونيّة أفقا للتربيّة ؛
  • تأكيد الانخراط في منظومة حقوق الطفل.
      ومع تأكيد هذه المكاسب بيّنت المداخلات في الجلسات العلميّة ومنابر الحوار وما لحقها من نقاشات أن المنظومة التربويّة تشكو من مواطن وهن عديدة أفضت إلى تأزّم المنظومة التربويّة.
ويمكن اختزال مظاهر هذه الأزمة في الجوانب التاليّة :
  • استهداف الإصلاحات السّابقة مجرّد تحيين النصوص القانونيّة دون أن يكون لذلك تأثير عميق على واقع المؤسّسة التربويّة ؛
  • وجود مسافة كبيرة تفصل واقع المدرسة التونسية عن مشروعها المبدئي الذي بقي نظريّا في أحيان كثيرة ؛
  • تراجع خطير للأداء والمردوديّة في العمليّة التعليميّة وضعف مستوى التحصيل لدى المتعلّمين ؛
  • تفشّي ظاهرة الفشل المدرسي في مستوى نسب الرسوب والتسرّب ؛
  • الضبابيّة والارتجال في مستوى آليات انتداب المدرّسين والتعويل المتزايد على النوّاب ؛
  • محدوديّة الجهد المبذول للإحاطة بالمدرّسين و تراجع جودة تكوينهم العلمي والصناعي (التّمهيني)؛
  • ضعف مواكبة المؤسسة التربوية التونسية لمختلف التغيرات التي شهدها المجتمع ؛
  • تصدّع التمفصل بين النجاح المدرسي والارتقاء الاجتماعي ؛
  • تزايد التفاوت الجهوي بين المؤسسات التربوية في مستوى الأداء والنتائج ؛
  • ضعف نجاعة التوجيه المدرسي والجامعي ؛
  • توتر العلاقة بين مختلف الأطراف التربوية وضعف ثقافة الحوار والاحترام ؛
  • تصدع علاقة المتعلم بالمؤسسة التربوية وبالمعرفة في أحيان عديدة، وتفشّي ظاهرتي العنف والغش ؛
  • عدم نجاعة المنظومة التأديبيّة الحالية لاستنادها على الزجر غالبا وتراجع الجانب الوقائي ؛
  • نقص التكامل بين مختلف مراحل التعليم (ما قبل المدرسي – الأساسي – الثانوي – الجامعي)؛
  • ثقل الزمن المدرسي وكثرة التعلّمات ؛
  • تراجع مستوى تدريس اللغات وإتقانها ؛
  • غياب مرجعيّة وطنيّة للتقييم واضحة المعايير والمؤشّرات ؛
  • التفاوت بين ضوارب المواد.
     في باب منهجيّة الإصلاح :                          
            أمّا فيما يتعلّق بمنهجيّة الإصلاح فقد أبرز النقاش تصوّرات مختلفة حينا ومتقاربة حينا آخر، أثرتها العروض التي قدّمت عن تجارب بعض الدول الشقيقة والصديقة وتوجّهات المنظّمات الدوليّة والإقليميّة في مجال الإصلاح.
    وقد تجلّت من المداخلات المقدّمة في هذا الشأن ومن المناقشات التي تلتها جملة من المبادئ والمرتكزات التي يجدر أخذها في الاعتبار في مختلف مراحل التمشّي الإصلاحي، ومن بينها:
    • ضرورة توفّر الإرادة السياسيّة في الإصلاح التربوي والالتزام بتوفير مستلزماته الماديّة والبشريّة والتشريعيّة  وغيرها وهو ما يلتقي مع ما عبّر عنه السيد رئيس الحكومة في افتتاح الندوة ؛
    • إشراك كلّ الأطراف المعنيّة بالشأن التربوي في عمليّة الإصلاح، وتنويع وسائل الاستشارة وسبر الآراء ؛
    • العمل على أن يكون الإصلاح شاملا لكل عناصر المنظومة التربوية وأن يؤخذ فيه بالمدخل النسقي (المنظومي)؛
    • الانطلاق في التمشّي الإصلاحي من نتائج تشخيص المنظومة التربوية، مع الأخذ في الاعتبار مجموع العوامل المؤثّرة فيها من ديموغرافيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة ؛
    • وضع خطّة تقويم مستمر للإصلاح المقترح بهدف التعديل المنتظم لمساره ؛
    • ربط الإصلاح التربوي بسياقه الوطني الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وكذلك بالسياقات الإقليميّة والعالميّة ؛
    • جعل الجودة هدفا محوريا للإصلاح، وذلك على ضوء محدّدات ومواصفات ذات فعالية ومصداقية عالية وتتلاءم مع خصوصيات الواقع التونسي ؛
    • تبنّي فلسفة في الإصلاح تضمن التحوّل من نقل المعرفة إلى إنتاجها، ومن التلقين إلى البحث والمبادرة والإبداع، ومن ثقافة المجهود الادنى  إلى ثقافة المبادرة والكد ومن المركزيّة إلى اللامركزيّة، ومن الأحادية إلى التشارك.
    الاقتراحات والتوصيات :
         في ضوء النقاشات التي دارت طيلة أيّام الندوة تبلورت جملة من الاقتراحات والتوصيات ترسم ملامح التوجه في عمليّة إصلاح المنظومة التربويّة.
    ويمكن التمييز في هذه المقترحات والتوصيات بين مقترحات خاصّة وأخرى عامّة :
    المقترحات خاصّة :
    •   تطوير ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان وتنميتها ضمن أفق القيم الكونيّة بما يساعد على تطوير الحياة المدرسيّة بمختلف أبعادها على أساس ميثاق يصاغ لحفظ المؤسّسة التربويّة ؛
    •  تطوير الشراكة بين المؤسّسة التربويّة ومكوّنات المجتمع المدني في ضوء ميثاق يحيّد المؤسسة التربويّة عن كل التجاذبات المذهبية والحزبية والسياسيّة ؛
    •  تركيز منظومة تقييميّة جديدة تراوح بين الامتحانات الجهوية والوطنية وتضمن نجاعة التقييم وجدواه ؛
    •  مراجعة منظومة التعلمات وما يتصل بها من ضوارب وزمن مدرسي ؛
    •   إحكام التنسيق بين مختلف مراحل الدّراسة بما يضمن التكامل والانسجام بينها ؛
    •   تركيز منظومة تقييميّة خصوصية للتعليم التقني والمهني تقوم على الإصلاح والتعديل المتواصل بما يساعد المتعلّم على التنقّل بين مسارات التعلّم حتى بلوغ الجامعة ؛
    •   إرساء مسلك تكنولوجي في المرحلة الثانوية لتنويع مسالك التكوين أمام التلاميذ ؛
    •   إعادة النظر في دور المدارس الإعداديّة التقنيّة وبرامجها وفتح الآفاق أمام خريجيها في إطار مراجعة هيكليّة للتوجيه المدرسي والجامعي ؛
    •   تطوير البنية الأساسيّة للمؤسّسات التربويّة وتجهيزها بما يتلاءم مع الرفاه البيداغوجي المطلوب، بالتعاون مع الجماعات المحليّة ومكوّنات المجتمع المدني ؛
    •   زيادة العناية  باستخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصال في التدريس بمختلف المراحل والجهات؛
    • إيلاء عناية أكبر بذوي الحاجات الخصوصية.
      المقترحات العامّة :
      • إحداث “المجلس الأعلى للتربيّة” باعتباره هيئة وطنيّة مستقلّة تسهر على جودة التعليم العمومي وديمقراطيته والتنصيص دستوريا على هذا الهيكل وعلى عمومية المدرسة التونسية ومجانيتها وديمقراطيتها ؛
      • وضع إطار قانوني تنظيمي يقرّ التمشّي الإصلاحي ويوفّر شروطه الإداريّة والبشريّة والماليّة ؛
      • اعتبار الإصلاح مسارا متواصلا تترابط حلقاته محليّا وجهويّا ووطنيّا وتضطلع به هيئات من الفاعلين الميدانيين ومن خبراء علوم التربية والتخطيط والاستشراف والتقييم ؛
      • تركيز مرصد وطني للتربيّة يكون على ذمّة الباحثين والخبراء والمهتمين بالشأن التربوي ؛
      • إحداث هيكل دائم يضطلع بتقييم المنظومة التربويّة مع تمكينه من الآليات الضامنة لحياده واستقلاليته ؛
      • مراجعة منظومة التكوين الأساسي للمدرسين في اتجاه بعث معاهد عليا لتكوين المدرّسين، مع تفعيل المؤسّسات الخاصّة بالتكوين المستمر وإعادة هيكلتها ؛
      • وضع إطار تشاوري يضمن التنسيق بين المنظومة التربويّة من جهة ومنظومة التكوين والتشغيل ومنظومة التعليم العالي والبحث العلمي من جهة أخرى.
      وأخيرا، توصي لجنة صياغة التقرير العام بتكوين فريق عمل يتابع نتائج هذه الندوة ويجمع أعمالها قصد نشرها وتعميمها.
          تونس، في 31 مارس 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق