تشترك مراحل التعليم الثلاثة في تونس وفي الوطن العربي عموما في نفس الداء، ألا وهو سوء الأداء في مجال مزدوج: اللغات والعلوم. فهل أنّ حصر الرداءة هناك يمثل فقط نتيجة لما آلت إليه عقود من التمدرس العصري في ظل الدولة الحديثة، أم أنّه يهدي أيضا إلى منهجيةٍ للإصلاح؟ أي، ألا يصح أن يكون ثنائي اللغة/العلم هو نفسه منهاجا للإصلاح فضلا عن كونه موضوعه؟
سنركز على تناول السؤال الثاني لأنّ الإجابة عنه قد تحمل إجابةً عن الأول. وفي هذا السياق نرى أنّ الارتقاء باللغة وبالعلم يعني إصلاح تعليمهما، مما يتطلب إنجاز الإصلاح في المراحل الثلاثة. أما بخصوص اللغة بالذات فهنالك مشكلة: لا بد من التأكد إن كان المقصود بها أداة التواصل العام أم أداة لتدريس العلوم. فالخيار الأول يعني أنه لا يهم التنسيق بين تدريس اللغة كمادة و تدريس المواد التي تُدرَّس باللغة. أما الخيار الثاني فيعني الدخول في سجال عقيم حول مَن منهما الأجدر بتدريس العلوم، العربية أم الأجنبية. و ينمّ الخيار الأول عن جهل بأنّ اللغة لم تعد تُعتبر أداة أي مَحْمَلاً لرسائل تواصلية وإنما أيضا فكرا ينقل ثقافة الناطقين بها إلى الذين يتعلمونها وله تأثيرات إيديولوجية عليهم . وهذا يستوجب الحرص على تأمين التعبير الهوياتي لدى المتعلمين للغة الأجنبية بصرف النظر عن تبني هذه اللغة لتدريس العلوم من عدمه. أما الخيار الثاني فيعني القبول بتدريس العلوم باللغات الحبلى بمفاهيم العلم الحديث: اللغات الأجنبية. وفي هاته الحالة أيضا سنصل إلى نفس الاستنتاج، ألا وهو ضرورة ربط تدريس العلوم بتدريس ما الذي نريد أن ننجزه بفضلها، مما يستوجب تدخل "الرموز الثقافية" (التسمية مقتبسة عن محمود الذوادي)، وأيضا ضرورة تدعيم اللغة كأداة وكفكر حتى يكون الأداء اللغوي في كل الحالات مرآة تعكس الشخصية الوطنية.
كيف يُجسَّد ذلك؟ والحال أنّ الطفل عندنا تغيب عنه أشياء كدقة الملاحظة والتفكير النقدي وروح التجديد والاكتشاف والابتكار وما إلى ذلك من التملكات، مما يحرم المتعلمين من الاستفادة من العامل الذي تتمحور حوله التملكات، ألا وهو الفضول العلمي. فهذا الأخير موجود لدى الناشئة إلا أنه غير مستغل أفضل استغلال عند الصغار، فما بالك عند الطالب الجامعي، الذي لم يبقَ لديه فضول وهو الذي قد تجاوز سن صقل المواهب ونحت الشخصية. والحال أنّ قصور الكتب والمناهج التعليمية وكذلك قلة التكوين المندمج لدى المدرسين على الأخص في مجالي علم النفس وعلم الإجتماع من أهم العوامل المعرقلة لحسن الاستغلال. أما أكبر عاهة في الجسم التربوي فهي فشل كل الأطراف في توظيف الدين كرافد أساس، أي كـ"رمز ثقافي" أساس، في تكوين شخصية المتعلم المنتمي إلى ثقافة الإسلام. ويعود ذلك بالأساس إلى غياب المنهجية الدينية التحررية و في المقابل إلى هيمنة الممارسة الدينية الاستبدادية، أكثر مما يعود إلى عدم قدرة الإسلام المزعومة على مواكبة الحداثة، ناهيك على توليدها.
إذن الفضول معطًى فطري بالمفهومين العلمي/العلماني وكذلك الإسلامي. وهذا يعني على سُلم تطوير تعليم اللغة أنّ الفضول يبقى فضولا مهما كانت اللغة المستخدمة لغرض استغلاله البيداغوجي شريطة أن تكون اللغة مواكِبة آنيا للحداثة. وهذا يعني على سُلم تطوير تعليم العلوم أنّ اللغة الأجنبية هي التي يتوفر فيها شرط حسن استغلال الفضول من أجل اكتساب الحداثة، وبالتالي يبقى التعويل على اللغة الأجنبية لتدريس العلوم الخيار الأسلم مهنيا وعلميا. زد على ذلك فهو الأسلم حتى من الجانب الهوياتي، طالما أنّ الفطرة المزمع تنميتها لدى المتعلمين قد تم تنظيرها مع الفطرة من المنظور الديني. تبعا لذلك، تنسجم فكرة صيانة الثقافة الوطنية مع فكرة أنّ اللغة العربية روحها الإسلام. وبما أن الإسلام دين التحرر من العبودية ومن الاستلاب، بما في ذلك الاستلاب للغة الآخر، فحماية الثقافة الوطنية بما فيها اللغة تمرعبرالتطعيم المستمر لعملية الكلام، إن لمّا يحدث بواسطة العربية (في درس اللغة والاجتماعيات والإنسانيات) أم بواسطة الأجنبية (في درس اللغة وفي درس العلوم)، بالدعائم التحررية التي يحث عليها الإسلام ويستبطنها. وفي الأثناء، نتوقف عند أهم هذه الدعائم:
أ. "الشريعة" وضرورة تدريسها كمحور استقرائي في وسط منظومة الدين، أي تنظيرها مع النحو في منظومة اللغة.
ب. "الحركة" الإنسانية (الطبيعية والثقافية؛ الفردية والاجتماعية)، وضرورة تدريسها كمفهوم وكممارسة متصلين بالقلب وبالعقل، اللذَين يتصلان بدورهما مباشرة بملكة الكلام وبالعقيدة، إن بإحداهما أم بكلاهما.
ج. "الطبيعة" وضرورة تدريسها كمصدر للطاقة وللحركة، ذي صلة وثيقة بالطاقة و بالحركة الإنسانيتين (الثقافة). وتكون اللغة هي الأداة المشتركة بين كل الناس لتأمين الربط بين الطبيعة والثقافة. هكذا تبقى العلاقة بين هاذين المجالين في مأمن من النكوص حتى في حال غياب العقيدة.
بالنهاية، إنّ إصلاح التعليم في مجتمعاتنا ذات الثقافة العربية الإسلامية ليست مسألة تغيير للمناهج والبرامج دون الحفر في داخل المنظومة المحافظة لغرض تغييرها نحو الأفضل. هكذا يكون الإصلاح رهنا برؤية تربوية تطال ينابيع التفكير وأسس الفعل لدى المتعلم لتحريرها و لتجديدها. إذا تحقق هذا الشرط في المراحل الثلاثة للتعليم ستكون الأبواب مفتوحة أمام الطلبة الجامعيين للتقدم أشواطا في البحث العلمي، مما يجعلهم قادرين على الإسهام في إنتاج العلوم، بلغة سليمة، وأيضا على الإسهام في الوقت ذاته في تحقيق التعريب وتبعاته من تعريبٍ للعلوم وللحداثة من جهة ومن تحديثٍ للغة العربية من جهة أخرى.
محمد الحمّار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق