الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

التصوّرات غير العلمية لا تزول بسهولة. مواطن العالم د. محمد كشكار


أنطلق من البحث الّذي أجراه بيار كليمان, الأستاذ المحاضر بجامعة كلود برنار بليون, على عيّنة تتكوّن من 98 طالبا فرنسيّا في السّنة الأولى طبّ و المنشور في أكاديمية مونتريال سنة2002
السؤال المطروح في البحث: أنت عطشان جدّا. شربت لترا من الماء. بعد وقت قصير, شعرت بحاجة للتبوّل. ارسم على ورقة المسار الذي اتبعه الماء داخل جسمك من لحظة شربه إلى لحظة التبوّل

نتج عن البحث ثلاث تصورات représentations ou conceptions

التصوّر الأوّل
55   في المائة من الأشخاص المستجوبين رسموا أنبوبا متواصلا من الأمعاء إلى الكيس البولي, يدخل فيه الماء من الفم و يخرج من الفتحة البوليّة و هذا خطأ علمي لأن الأنبوب الهضميّ منفصل تماما عن الأنابيب البوليّة و الأوعية الدموية هي  التي تربط بينهما

 التصوّر الثاني
6   في المائة رسموا أنبوبين منفصلين دون أيّ رابط دمويّ بينها, الأوّل يدخل فيه الماء من الفم و يخرج من الشّرج مرورا بالأمعاء و الثاني يخرج منه الماء من الفتحة البوليّة و هذا خطأ علمي أيضا

التصور الثالث
39   في المائة رسموا ثلاثة أنابيب مرتبطة بسهام, الأوّل يمثل الأمعاء و الثاني الأوعية الدّمويّة و الثالث الأوعية البوليّة. يدلّ الرسم على أن المستجوبين أصابوا: الماء يمر إلى كامل أعضاء الجسم عبر الأوعية الدموية

استنتج كليمان من هذا البحث ما يلي
رغم أن الطّلبة درسوا في الابتدائي و الثانوي و العالي المضامين العلميّة اللازمة لتبنّي التصور الثالث, نلاحظ أن أكثر من نصفهم ما زال يتمثّل في ذهنه التصوّر الأوّل غير العلمي

بحث كليمان في سبب هذه التصوّرات غير العلمية  و توصّل إلى الاستنتاج التالي
التصوّرات تنتج عن تفاعل بين ثلاثة عناصر

العنصر الأوّل
 المعارف العلميّة les connaissances scientifiques
التي نشرت في المجلات المختصّة و الكتب أو الّتي تلقّاها التلميذ في المدرسة

العنصر الثاني:  مجموعة القيم [les valeurs ] التي يتبنّاها التلميذ حول هذا موضوع

العنصر الثالث: الوسط الذي يعيش فيه التلميذ و ممارساته الشّخصيّة
و الممارسات الاجتماعية السّائدة في بيئته  les pratiques sociales 

ننتقل الآن إلى واقعنا التعليمي التونسي لنعطي بعض الأمثلة على هذه التصوّرات غير العلمية الرّاسخة في أذهان التلاميذ رغم أن المعارف العلميّة اللازمة لتصحيحها تدرّس في كل المستويات

المثال الأوّل
ما هي أسباب حركات التنفّس عند الإنسان؟
يأتي التلميذ إلى الإعدادي و هو يعتقد جازما أن الهواء يدخل إلى الرئتين وينفخها فيرتفع الصدر. و هذا جواب غير علمي و الجواب الصّحيح هو الآتي: تتقلّص عضلات الصدر و عضلة الحجاب الحاجز و تتبعها الرئتان الملتصقتان بهما فيزيد حجم القفص الصدري فيخلق فراغ في الداخل يجذب الهواء من الخارج عن طريق الفم و الأنف. نلاحظ إذا أن دخول الهواء هو نتيجة و ليس سببا في حركات التنفّس. يدافع التلميذ على نفسه بقوله أن المعلّم لم يدرّسه المعلومة الصّحيحة و هذا مخالف للواقع لأن بعض التلامذة يحتفظون بهذا التصوّر غير العلمي رغم تصحيح الأستاذ للمعلومة و يعيدون استعماله في الثانوي و في العالي


المثال الثاني
ماذا تتنفّس النباتات الخضراء؟
يأتي التلميذ إلى الإعدادي و هو يعتقد جازما أن النبتة تتنفّس عكس الإنسان, يعني أنّها تمتصّ ثاني أكسيد الكربون و تطرح الأكسجين و هذا جواب غير علمي و الجواب الصّحيح هو الآتي: أثناء التنفّس, الذي يقع في النهار و الليل, تأخذ النبتة الأكسجين و تطرح ثاني أكسيد الكربون. من أسباب هذا التصوّر غير العلميعند التلميذ هو الخلط بين وظيفة التنفّس و وظيفة التركيب الضوئي اللتين تقعان في نفس الوقت في الضوء. أثناء عملية التركيب الضوئي الذي يقع في النهار فقط, تأخذ النبتة ثاني أكسيد الكربون لتصنع منه المواد العضويّة كالنشا و السكر و الدهنيّات و البروتينات ثمّ تطرح الأكسجين

المثال الثالث
بماذا تتغذى النباتات الخضراء؟
يأتي التلميذ إلى الإعدادي و هو يعتقد جازما أن ثاني أكسيد الكربون يتكوّن من غازات سامّة و مضرّة بصحّة كلّ الكائنات الحيّة و لا يعتبره مادّة مثلها مثل الأجسام الصلبة و الساّئلة. هذا التصوّر غير العلمي يجعل من الصعب إقناع التلميذ بأن هذا الغاز هو مادّة و غذاء للنباتات الخضراء و منه تصنع شجرة الزيتون الزيت ونبتة اللفت السكري السكّر… ودونه نموت جوعا

المثال الرّابع
 هل مخ المرأة يساوي مخ الرجل؟
يتمثّل التصوّر السّائد في أن مخ الرجل أكبر في الوزن و الحجم من مخ المرأة و الخطير هو ما ينجرّ عن هذا التصور من قيم تحقّر من شأن المرأة و ترفع من شأن الرجل رغم أن المعلومة الصّحيحة  ) يختلف وزن المخ و حجمه حسب وزن الجسم رجلا كان أم امرأة( تدرّس  في برنامج الباكلوريا. أضف إلى ذلك أن الذكاء البشري لا يقاس بحجم أو وزن المخ بل يقاس بما يقيمه الإنسان بيولوجيا من وصلات عصبية بين الخلايا المخية نتيجة التفاعل المستمر بين الجينات الموروثة و المكتسبات من التعليم و المجتمع

  المثال الخامس
من يصنع الصفات البشرية, الو راثي أو المكتسب؟
جلّ الناس يعتقدون أن العامل الو راثي هو المحدّد في تكوين الجسم بيولوجيا و فكريّا و يهملون في أغلب الأوقات دور المكتسب أو يقلّلون من شانه مع العلم أنه يستحيل الفصل بين الاثنين لأن تفاعلهما الدائم ينبثق منه البشر بصفاته البدنية و الذهنية

خلاصة القول
 التصوّرات غير العلمية راسخة في ذهن التلميذ والأستاذ و غيرهم و هي تمثّل منظومة فكريّة متماسكة أثبتت نجاعتها عبر السنين فلا نستطيع تغييرها بإقصاء التصورات القبلية للتلميذ. يأتي التلميذ إلى القسم حاملا أفكارا و قيما ناتجة عن تفاعله مع محيطه المادّي و البشريّ, فهو يتأثر بما يسمع في وسائل الأعلام و ما يقرأ وهو كذلك يؤثر في أقرانه. نستنتج إذا أن التلميذ ليس صفحة بيضاء نكتب فيها ما نشاء أو إناء فارغا نملؤه بما نريد بل هو شخصيّة متكاملة و قابلة للتطوّر و قادرة على صنع معرفتها بنفسها كما يقول الابستمولوق بياجي
يتحتّم علينا أن لا نهمل تصوّرات التلميذ في كلّ عمليّة تربويّة لكي لا نكون مثل الذي يبني على أساس هشّ

أعرض عليكم وجهة نظر للتعامل مع هذه التصوّرات غير العلميةحسب طريقة تربويّة تعلّميّة:  قبل دراسة أي موضوع, نجمع تصوّرات التلاميذ حول هذا الموضوع و نحلّلها و نستخرج منها العوائق التي تحول دون تملّك المعرفة و نجعل من أهداف الدرس تجاوز هذه العوائق مع العلم أن تصحيح المعلومة وحده لا يكفي لتغيير المفاهيم عند التلميذ و إذا اعتقدنا خطأ أننا تجاوزناها فقد تظهر من جديد لأنها لا تنهزم بسهولة.أدعوكم إلى التّمعّن في هذا التعبير المجازي و المعبّر للأستاذ جونّآر عوائق التعلّم كجبل الثلج’’ , ما خفي منها كان أعظم لأن الأخطاء المعلنة الّتي تنبع من الذاكرة قصيرة المدى والّتي تبدو لنا بسيطة قد تلهينا عن معالجة المنظومة الفكريّة العميقة المخبأة بحرص في الذاكرة طويلة المدى و هي الّتي ترتكز عليها تصوّرات التلميذ و نحن جميعا, مدرسين و أولياء و أقران و وسائل إعلام, شاركنا في نحتها في مخه

أختم دائما مقالاتي بطرح الإشكالية التالية: هل نستطيع تغيير التصوّرات غير العلميّة عند التلميذ في المدرسة فقط بمعزل عن المجتمع ؟. مواطن العالم د. محمد كشكار 

المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق