الأحد، 13 نوفمبر 2011

ثورة على منوال الثورة الحاجة إلى قراءة الوضع النقابي في قطاع التعليم الثانوي اليوم


المقاربة المزمع طرحها في هذه الورقة تمثّل قراءة عامة لما أصبح عليه الوضع النقابي في قطاع التعليم الثانوي تحديدا. وقد يساعد وضعنا الاستثنائي الذي نعيشه على توسيع نطاق أيّ قراءة لتكون باعثة على السؤال والبحث. هذا الوضع الذي نروم في ضوئه استعادة العديد من الخصال والمواقف البنّاءة لم يترك النظام السابق أيّ وسيلة أو أسلوب لتدجينه وإحكام غلق المنافذ عليه، ساعده في ذلك العديد من النفوس الانتهازية ذات النزعة الوصولية داخل المنظّمة الشغيلة، بحيث لم تعمل إلاّ على التلاعب بالعديد من المسائل المصيرية في الاختيارات التربوية والمهنية للأساتذة، وذلك هو موطن الداء الذي أصاب نقابة التعليم الثانوي وسبّب ضعفها ووهنها. لا أحد ينكر أنّ الوهن الذي أصاب منظّمتنا العريقة في السنوات الأخيرة، والانشقاقات التي اخترقتها في العديد من المناسبات إنّما هو من الورقات التي كان النظام السابق مراهنا عليها ونجح في مرات عديدة في الاستفادة منها، ولا أحد ينكر أيضا كيف أصبحت المصالح الشخصية وحتى بعض الأهداف السياسية الخفية مهيمنة على الخيارات والمواقف النقابية لقطاعنا، وهذا ما جعل من الأزمات المتتالية تعصف بهذا القطاع إلى حدّ تحوّلت فيه بعض الهيئات النقابية إلى سلطة موازية ومعاضدة أحيانا للسلطة الحاكمة، بل إنّ هناك من الأطراف النقابية من تهيّأ له أنّه في موقع الحاكم بأمره عندما عرف كيف يقفز على الأحداث، ويحوّلها إلى عناصر استئثار بالتصرّف والتحكّم، وما تصرّفات هذه الأطراف في وسائل الإعلام وفي المقرّات النقابية في الفترة الحرجة التي مرّت بها البلاد بعد 14 جانفي إلاّ من بين الدلائل المبرهنة على نهجهم في استغلال الفرص لحسابهم. لا يبتغي هذا الطرح في الحقيقة محاسبتهم أو مساءلتهم على الأقلّ في الوقت الحالي، بل إنّه يرمي فقط إلى التنبيه لبعض العناصر التي تساعد على فهم ما حدث لقطاعنا تحت “سلطة” هؤلاء، وتمكّن من رصد بعض الملامح التي نقدّر أنّها قد تحدث وقد تكون من الأوراق التي سيلجأ إليها هؤلاء في ظلّ الوضع الجديد للبلاد بعد انتخابات 23 أكتوبر2011. لهذا يُعْتَبَرُ الوضع الذي يواجهه العديد من النقابيين “المخضرمين” اليوم غير مألوف، طالما أنّهم اختاروا أن يكونوا في مفترق من السبل ولم يختاروا في بداية الثورة التونسية وإلى حدود 23 أكتوبر السبيل الأصلي الذي يفترض بهم أن ينتهجوه وأن يلتزموا بثوابته ومبادئه الأصيلة. كما أنّهم طرحوا على أنفسهم عدم التفريط في “امتيازاتهم” التي خوّلتها مواقعهم النقابية قبل الحصول على مواقع تمنحهم امتيازات أفضل لو ابتسم لهم الحظّ في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي(“حزب العمل” والفتاوى التي طالعتنا بها بعض الوجوه النقابية المدّعية أنّها تخدم المصلحة الوطنية وأنّه لا تَعَارُض بين نشاطها الحزبي ونشاطها النقابي، مع أنّ هذا التعارض يصبح موجودا لو تعلّق الأمر بغيرهم ممّن ينشطون في حزب يعادونه، فهل من المعقول أن تدافع هذه الوجوه على مصالح القطاع لو حازت مواقع في سلطة الإشراف؟ ولن نبحث بعيدا ما دامت الأمثلة على ذلك متوفّرة من خلال بعض النقابيين الذين تولوا إدارة بعض المعاهد الثانوية…). لكن بالتوازي مع هذا المنحدر الذي أوقعنا فيه بعض ّالمتزعّمين” النقابيين، هناك وضع جديد مطروح على نقابة التعليم الثانوي بقطع النظر عمّن كان يمثّلها ومن يزعم أنّه مازال ممثّلا لها، مع أنّه سقط في مغالطات شنيعة بسبب إدخال الحسابات السياسية الضيّقة والخيارات الايديولوجية المغلقة. ونعني بهذا الوضع المستجدّات السياسية والمتغيّرات الطارئة التي تحملنا على إعادة النظر في العمل النقابي والتفكير مليا في التحدّيات التي ينبغي علينا رفعها ليس فقط في الميدان المهني والمطالب الاجتماعية، وإنّما في ما يرتبط بالمنظومة التربوية ككلّ وبرامج التعليم وأساليب التدريس. فهمّنا لا ينحصر في الاجتماعي كما أوهمنا بذلك من ادّعوا أنّهم يفهمون كلّ شيء ولا وجود لمن يفهم معهم. ما انفكّ هؤلاء يوهمون القاعدة الأستاذية أنّهم لم يفهموا قواعد اللعبة، وليست لهم دراية بالكيفية التي يجب التصرّف وفقها، فلا نستغرب بعد ذلك أن كانت أغلب القرارات والإجراءات المتّخذة مسقطة على القاعدة الأستاذية التي بدت أبرز متغيّب عن المشاركة في القرار. كان “النقابيون” يعرفون كلّ شيء ويبيحون لأنفسهم عمل كلّ شيء، أمّا القاعدة الأستاذية فهي مطالبة بالانصياع والتنفيذ حتى تتجنّب الاتّهامات التي لم يتوان بعض الأطراف النقابية عن ترويجها ومحاصرة من لا يرضون بها.
وإذا أردنا طرح ملف العمل النقابي اليوم في ما يخصّ قطاع التعليم الثانوي على وجه التحديد، فلا بدّ من تجنّب الدخول في هذا المفترق المذكور حتى نفوّت على هؤلاء الذين وجدوا أنفسهم فيه طرفا،التحكّم في المشهد الجديد أو المشاركة في نحته على نحو يغيّب مرّة أخرى القاعدة الأستاذية الواسعة من دائرة الاختيار وصنع القرار. ملفّ العمل النقابي في قطاع التعليم الثانوي ثقيل بالتجاوزات والخروق ويحوي رواسب لا تبدو مفصولة عن إرث النظام السابق. لقد كان واضحا لدى أغلب القاعدة الأستاذية أنّ بعض الأطراف النقابية الحالية كانت تروّج لشعار من ليس معهم يعدّ خائنا لمبادئ العمل النقابي، من لا يوافقهم الرأي والقرار يتّهم بانحيازه للنظام أو يروّج بشأنه الشكوك حول عمالته وتواطئه، هو تقريبا الاتّهام نفسه الذي يتهدّد كلّ من يريدون وصفه بكونه ضدّ النظام، لقد كانت أطراف نقابية تقوم بالممارسة نفسها التي كان يمارسها النظام السابق، من كان على تصوّر أو موقف يتعارض مع مصلحة بن علي وعائلته وأصهاره يعدّ معارضا للنظام ومُدَان سياسيا، كذلك الأمر لمن لا يوافق كاتب عام النقابة أو أحد الممثّلين النقابيين أو عضوا من الأعضاء الجهويين…كان يعتبر معارضا للعمل النقابي ومُدَانٌا بالعرف النقّابي. لا مجال للاختلاف مع هؤلاء، بل ينبغي موافقتهم والامتثال لقراراتهم ومناوراتهم الداخلية وحساباتهم الشخصية وتوازناتهم …ما كان سائدا في المشهد النقابي لقطاع التعليم الثانوي لم يكن مختلفا عمّا كان سائدا في الواقع السياسي. كانت نقابة التعليم الثانوي أشبه”بوزارة” أو قسم في وزارة الإشراف تقوم بتصريف شؤون عامّة وخاصة، تابعة لسلطة الحكم أو لسلطة الأفراد، فهي تزكّي الموالين لـ”زعمائها” وتدافع عمّن يمثّل بوق دعاية لهم وتمكّن من تلبية نقل أساتذة دون غيرهم وتتولى الدفاع عن ملفات أطراف دون سواهم، و… وكلّ ذلك من جرّاء الاستعاضة عن المصالح الحقيقية للقطاع بمصالح شخصية ونخبوية. ولو بادرنا اليوم وفي هذه الفترة بالذات، أي بعد نتائج الانتخابات للمجلس الوطني التأسيسي، إلى طرح السؤال نفسه على أساتذة التعليم الثانوي: هل عندكم ثقة في أعضاء نقابة التعليم الثانوي؟ ستكون الإجابة سلبية تماما، وما عريضة سحب الثقة من أعضاء النقابة الجهوية بجهة صفاقس التي تتنقّل بين صفوف الأساتذة هذه الأيام إلاّ أحد الأدلّة على ذلك. وما زاد من تعمّق أزمة الثقة هذه هو التجاوزات التي حصلت في مفتتح السنة الدراسية من هؤلاء النقابيين ذاتهم، سواء في حقّ من يفترض أنهم يدافعون عنهم، أي الأساتذة الذين لم يقع إنصافهم نقابيا، أو في حقّ أطراف تربوية مشهود لهم بالكفاءة فرض نقابة التعليم الثانوي لَفْظَهُم دون تقدير مسبق للوضع التربوي، وليس ذلك ما يهمّ مقارنة بما تخفّى خلفه من دخول في لعبة المقايضة مع سلطة الإشراف، وما تعيين العديد من النقابيين للإشراف على المؤسّسات التربوية دون أدنى تكوين أو خبرة في المجال، إلى جانب مضامين المناظرة التي لم تخل من ريب وشبهات رَوَاهَا العديد ممّن دخل هذه المناظرة، إلاّ برهنة على هذا التوجّه التقليدي في سلوك العديد من الأعضاء( واللافت للانتباه أنّ هناك منهم من بقي لعدّة أيّام يتجوّل في أروقة المندوبية الجهوية للتربية وبيده قطع صغيرة من الأوراق متضمّنة لشؤون يعمل على قضائها بطرقه الخاصّة أمام مرأى الجميع طالما أنّ الجلسات الرسمية لا تفي بقضائها) هذا دون أنّ نتوسّع في الحديث عن نزوع هؤلاء نحو الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من النفوذ: فهناك من تمّ تعيينه مديرا ويريد الاحتفاظ بـ”مركزه” النقابي في الآن نفسه، وهناك من دخل معترك الحملة الانتخابية طامعا في حيازة موقع في الحكومة الجديدة دون أن يفرّط في “تزعّمه” النقابي حتى تكشف الانتخابات عن نتائجها، فإن تحقّق له ما أراد ترك العمل النقابي، وإن فشل في ذلك رجع إلى حيث كان. والأدهى من كلّ ذلك، أن يُزَيََّن لبعض من شغل موقعا في الحكومة المؤقّتة وسلطة الإشراف، الطمع في قيادة هذه المنظّمة العريقة، فكانت الخطوة الفاضحة هي التذكير بنضالاته التي لا يشقّ لها غبار. أمّا الخطوة الخفية، وإن كانت لم تخف على العديدين، فهو الانسجام والتناغم الذي حصل بين سلطة الإشراف ونقابة التعليم الثانوي منذ أشهر، حتّى أنّنا لم نعد نسمع لها صوتا ولا نرى لها حراكا إلاّ في مجال التعيين والتكليف. يبدو أنّ الحسابات الخاصّة طغت على العمل النقابي، فضاعت فيها المبادئ الأصيلة واختفت من الممارسة النقابية خصال الصدق والثبات على الموقف والعمل من أجل أهداف الطبقة الشغيلة. لقد أصبحت نقابة التعليم الثانوي بالنسبة إلى بعض الأطراف الموقع الأمثل لخدمة أهداف غير نقابية وتلبية مصالح أفقرت الحسّ النقابي وتسبّبت في عزوف القاعدة الأستاذية عن هذه المنظّمة التي كانت تمثّل متنفّسا لهمومهم وملاذا لمشاكلهم، لقد كانت تجمعهم وتلمّ شملهم، غير أنّها اليوم أصبحت سببا لفرقتهم ومصدرا للعديد من مشاكلهم. لا نسعى في هذا السياق إلى فضح الممارسات الضالّة والمخلّة بنبل العمل النقابي لأنّ ذلك يحتاج إلى توثيق ومستندات لا يسعها هذا الخطاب، لكن نسعى إلى توجيه نداء لكلّ القاعدة الأستاذية، وإلى كلّ الغيورين على منظّمتهم العريقة كي يعملوا على استعادة ما سُلِب منهم وردّ الاعتبار للقطاع على نحو يستأنف فيه العمل بما يخدم أهداف التعليم الثانوي. نريد القيام بحملة تطهير لمنظّمتنا وإخلائها من التوجّهات الانتهازية والوصولية، نريد تحرير نقابة التعليم الثانوي من مغتصبيها الذين آلوا على أنفسهم الهيمنة عليها مدى الحياة، ولا حاجة لي كي أذكّركم بأنّ عهد الترهيب والمخادعة والاستحواذ على الخطاب النقابي قد ولّى، ومن شأن القاعدة الأستاذية اليوم أن تقول لا بأعلى صوتها لهؤلاء المتلاعبين بالقطاع التربوي ومن حقّ القاعدة الأستاذية أن تصنع ربيعها النقابي كما صنع الشعب التونسي ربيعها السياسي اليوم. عاش الاتحاد العام التونسي للشغل، عاشت نقابة التعليم الثانوي موحّدة ومناضلة من أجل إنجاح العمل التربوي. عاشت تونس حرّة على الدوام.
أبو محمد

المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق