السبت، 19 نوفمبر 2011

الأيام التكوينية للمدرسين بين إهدار الجهد وعدم الفاعلية


بقلم: سعدية بن سالم

ظلّ الحديث عن التكوين البيداغوجي في المؤسسة التربوية في كنف الصمت، إمّا اتقاء لغضب السادة المتفقدين، أو ابتعادا عن شرور سلطة الإشراف، أو إيثارا للسّلامة، والأغلب أنّه اقتناع بأنّ التكوين، ضمن الموسم الدراسي، شرّ لابدّ منه، يستجيب له أغلب المدرّسين استجابة المغلوب على أمره، وقد يدعو إليه كثير من الزملاء المتفقدين دعوة المجبر على استعراض نشاط ما أمام سلطة الإشراف..

 وتثير مسألة التكوين البيداغوجي، عديد الإشكالات المسكوت عنها، ولأنّ المجال لا يسمح بالتطرّق لكلّ ما في هذه المسألة من تشعبات فإنّنا نتناولها في علاقة  الجهد المبذول في إنجازها بالفائدة المترتبة عنها، ونحاول أن نطرق إلى أيّ مدي تستجيب منظومة التكوين كما تحرص على تطبيقها الوزارة منذ عقود إلى الحاجة التربوية البيداغوجية؟ أم هي مجرّد واجب ثقيل يخضع له المدرّس دون رغبة ودون استفادة حقيقية (باعتبار أنّه يقصد حلقات التكوين منذ البداية دون استعداد للاستفادة)،
وحتّى يكون الجميع على بيّنة بما نتحّدث، نذكر ما يتكرّر كلّ سنة، يحصل الأساتذة بداية السّنة عادة على رزنامة الأيّام البيداغوجية التي سيتلقون فيها تكوينا على امتداد الموسم الدراسيّ، وتتوزّع هذه الرزنامة بين أيّام تكوينية نظريّة تتمّ عادة في مراكز التكوين الجهويّة، وبين دروس شاهدة يحضر فيها الزملاء درسا مع زميل ثمّ تقع مناقشة الدّرس من حيث الإجادة والنّقص.. ولئن يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا النمط من التكوين الذي اعتدناه حتى أصبح مملاّ لا روح فيه، نمط مقبول نوعا ما لتطوير تجربة المدرّس في القسم وتبادل الخبرات مع البقية لما فيه رقيّ بالعمليّة التعليمية وتجويد لمكتسبات المتعلّمين الذين يلبثون هاجس العملية التربوية الأوّل، فإنّ المتأمّل في هذا النمط من التكوين يتبيّن دون مواربة تآكله مع الزّمن وفقدان البريق مع تقدّم سنوات التدريس، والمقصود بذلك، أنّ المدرّس الّذي تجاوز العقد من الزمن في التدريس والذي حضر من الدروس الشاهدة ما يملأ سنة دراسية كاملة والذي ناقش صعوبات التعلّم في اختصاصه وكرّرها حتّى لم تعد قابلة للنقاش ماذا سيفيد بعد ذلك الزمن من الحضور في دروس شاهدة أو حلقات تكوينية مكرّرة، أليس من الأولى تخصيص تلك الحصص إلى المدرّسين الجدد الذين يحتاجون إلى الخبرة أكثر والذين يواجهون صعوبات في التواصل مع المتعلّمين؟؟ ماذا يفيد مدرّسا من درس شاهد يكرّره في قسمه منذ عشريّة أو عشريّتين... هو يأتي فقط لتسجيل الحضور والخروج؟.. نادرا ما تجد مدرّسا ذا خبرة قادما إلى الدروس الشاهدة بطيب خاطر أو يملك أدنى اقتناع أنّه سيستفيد.. وقد يقول البعض إنّ حضور المدرسين ذوي الخبرة ضروريّ بالنسبة إلى الجدد ليكون التواصل وتمرّ التجربة سلسلة، وهذا قول على وجاهته فيه حيف لأنّ أخذ الخبرة من عنصر "ذي خبرة" لا يتطلّب بالضررة  حضور الجميع، فيكفي أن يقع الاختيار كلّ مرة على عنصر من ذوي الخبرة الطويلة وعنصر ذي خبرة متوسطة لتكون الاستفادة موجّهة وفاعلة وندرك جميعا أنّ القضيّة ليست قضيّة كمّ وإنما قضيةّ فاعلية، ثمّ إنّ الزّملاء المتفقّدين والمرشدين البيداغوجيين موجودون لأجلاء الغموض والرقيّ بالتجربة.. وأعتقد أنّ في كثير من الدعوات لحضور الحلقات التكوينية والدروس الشاهدة إجهادا ومشقّة لا لزوم لهما وكثيرا ما يوترون العلاقة بين المربي والمتفقّد دون نفع. وقد يتهمني البعض أنّي أبحث عن الراحة في اليوم المخصّص للتكوين دون وجه حق، وللحقيقة فالجميع يعلم الحاجة إلى الراحة واسترجاع الأنفاس بعد إجهاد القسم، وضوضاء التلاميذ.. ولكن ليس الأمر على هذه الوجهة وإنما قصدت أساسا مراجعة منظومة التكوين في المدارس والمعاهد الثانوية، لأنّنا إن كنّا مازلنا نعتقد في جدوى هذا النمط من التكوين في هذا العصر فأخشى أنّنا واهمون جدّا..

  إنّ التكوين كما هو اليوم، لا يفرّق بين متربّص، وبين مشرف على التّقاعد، وقد رأينا بشائر البيداغوجية الفارقية في زمن ما تهبّ على المتعلّمين ولم نستنشق عبيرها في التكوين.. بل إنّنا خضعنا إلى حلقات تكوينية طويلة ومرهقة وشاقّة دون إفادة، وكانت مضيعة للوقت بنسب متفاوتة وليس ذلك إلاّ لأنّ المبرمج لم يراع أيّة خصوصيّة في الجمهور المستهدف، وآخذ مثالا على ذلك، ما حدث في حصص التكوين في الإعلامية، فقد نزل برنامج من حيث لا ندري يدعو بل يجبر كلّ الأساتذة على حضور حلقات تكوينية طويلة في الإعلامية دون تمييز بين من له خبرة في المجال وبين الذي لم يضع يده يوما على لوحة حاسوب.. والنتيجة أنّها كانت مفيدة للبعض وإهدارا للجهد والوقت بالنسبة إلى البعض الآخر وكأنّ ذلك الزمن الذي تقضيه مستعرضا لمكونات الحاسوب وكيف تكتب نصّا وتمحو آخر لا حاجة  لك به.. ولا يدلّ ما حدث، ويحدث، إلاّ على ارتجال في التعاطي مع الشأن التكويني وسدّ للفراغ دون موجب..

ولا أستثني، من الشّعور بالاعتباطية الملل، الزملاء المتفقّدين، الذي ينطلقون في سنيهم الأولى في التفقّد بكثير من الاندفاع والأحلام والرغبة في الإضافة، ثمّ يدركون عبثيّة التكرار مع مرور الزمن وتراكم الأعوام.. إذن؟؟ ما الحلّ؟

  ليس من الحكمة ولا من المقبول ولا من المعقول أن نقول بإلغاء التكوين، ولكن، أيّ تكوين؟؟ نحتاج تكوينا، هذه حقيقة ومن ينقطع عن الاكتساب والتعلّم يتراجع ضرورة،ولكن نحتاج تكوينا آخر، تكوينا علميّا يراعي الطبيعة البشرية ويراعي المكتسبات ويثمّن الخبرة الميدانية التي اكتسبها المدرّس بمرور الزمن.. تلك الخبرة التي تلقيها سلطة الإشراف في سلّة المهملات بعد خروج المدرّس إلى التقاعد دون أن تفيد منها شيئا في تطوير منظومتها وتعديل مناهجها وبرامجها..

 إنّ الحلول العمليّة موجودة ولكنّها تحتاج قرارا جريئا ورؤية تراعي المنظومة التربوية وتؤمن بأهميّة العملية التربويّة والتعليميّة للمؤسّسة ولا يمكن أن تخرج إلى حيّز التطبيق إذا لم تعد إلى المدرّس مكانته التي حاولت أطراف كثيرة النيل منها.. ويُحترم كيانه باعتباره إنسانا لا آلة يراد لها العمل دون تفكّر ولا تفكير، أو على الأقلّ أن يعطى بعض حقوق الآلة من التعهّد بالصّيانة دوريّا.. وأعتقد أنّه من الضروري بعد عدد سنوات العمل المتوالية أن يحصل المدرّس على سنة تفرّغ، يبتعد فيها عن القسم ويقيّم تجربته على ضوء ما تقدّم، وأثناء هذه السّنة يعود إلى مقاعد الدراسة والتكوين ولم لا إلى البحث.. فلو خصّصت سلطة الأشراف لكلّ مدرّس سنة تفرّغ بعد كلّ خمس سنوات عمل، وهو اقتراح قابل للزيادة والنقصان، يتلقى فيه تكوينا حول آخر ما وصلت إليه البحوث في علوم التربية وعلم نفس الطفل والمراهق، ويقدّم فيه بحثا ميدانيا متسلّحا بما اكتسبه من خبرة السنوات الماضية ويشارك في وضع تصوّرات حول سبل علاج صعوبات التعليم والتعلّم لكان التكوين أكثر عمقا وأكثر جدوى، ولعاد المدرّس إلى العمل في السّنة الموالية أكثر استعداد للعمل وأكثر قدرة على التفاعل الإيجابي مع المتعلّمين.. أليس من المَعيب في حقّ المنظومة التربوية في بلادنا، والتي انطلقت رائدة في بداياتها، أن لا تفارق البدايات؟ أليس من المعيب في حقّ منظومتنا التربوية التي قادت قاطرة التعليم في الوطن العربي أن تقف اليوم منتظرة نجاح تجارب هنا وأخرى هناك لتقتدي بها..؟  أليس من المعيب أن ينهي المدرّس زمنه الوظيفي دون أن يساهم ببحث ميداني علميّ واحد يقيّم به تجربته وتجربة التعليم في البلاد ويساهم، وهو الأقرب إلى سلوك تلاميذه وقدراتهم الذهنية، في الرقيّ بتلك القدرات ووضع تجربة تعليمية خاصّة تراعي خصوصية التعليم في تونس..؟ أليس من العيب أن نجبر المدرّس على هجر البحث والكتاب منذ التحاقه بوزارة التربية والتعليم؟ وكيف له أن يقبل على البحث والتعلّم وهو الذي يعود من العمل وقد ضجّ رأسه بالبرنامج اليومي، ولا يلبث أن يستردّ النفس حتى يتوجه إلى إعداد دروس الغد؟ كيف لا يهجر الكتاب وهو الذي عليه أن ينسى ما تعلّم من معرفة عالمة ويوجّه كل اهتمامه إلى المعرفة القابلة للتعلّم حتى يكاد ينسى أنّها أجيز في اختصاص علميّ..؟ وشخصيّا لم أستغرب كثيرا تفرّغ أحد الأساتذة الوهّابيّين في "نموذجي صفاقس" إلى التفريق بين الفتيان والفتيات أثناء الدّرس، في رفض لمكسب من مكاسب التعليم في تونس وهو مكسب الاختلاط، فهذا المدرّس ولا شكّ، لم يتعهّد معارفه بالصيانة منذ غادر مقاعد الجامعة، وهو في قطيعة مع كلّ جديد في علوم النفس والاجتماع وعلوم التربية، والعقل، شأن الطبيعة يأبى الفراغ، فإذا لم يطلب العلم طلب التفاهة وعشش فيه العنكبوت..

  إنّ منظومة التكوين في البلاد اليوم تحتاج إلى طرح جديّ يستأصل الحلول الارتجاليّة، وإنّ ما يُخصّص لحلقات التكوين التي لا تقدّم ولا تؤخّر يمكن أن يخصّص لتكوين يخضع إلى برامج علمية حقيقية تضيف لبنة جديدة للتعليم في تونس وتمنح مهنة التدريس مذاقا يخفّف مشقّتها.. وإذا كان لابدّ من تلك الدروس الشاهدة والحلقات التكوينية المكرّرة فلتُخصَّص للمتربصين والذين يقلّ عدد سنوات عملهم على الخمس سنوات، وهؤلاء عددهم ليس قليلا.. ولتضبط برامج سنوية للبقية تحقّق فعلا النجاعة وتصيب الأهداف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق