الأربعاء، 7 ديسمبر 2011

دراسة تونسية تكشف عن سوء التخطيط للتعليم في العهد السابق


د. بوعزي لـ «الشرق الاوسط»: هجرة الأدمغة وغرس الإحباط لدى الطلبة والأساتذة كانا سمتين بارزتين

كشف الباحث التونسي الدكتور أحمد بوعزي، في دراسة له حول جوانب من السياسة التعليمية في تونس، المتعلقة بالنوابغ، عن أن «الدولة التونسية لم تكن تملك سياسة وطنية للتعامل مع النوابغ، أي الذين يحصلون في امتحانات الثانوية العامة، البكالوريا، على معدلات تفوق 16 من 20؛ إذا استثنينا دراسة الطب»، مما يعني حصول تراجع كما كان سائدا قبل 50 سنة في تونس «في الستينات قُسم الطلبة الحاصلون على البكالوريا إلى ثلاثة أصناف حسب معدلاتهم، يرسل الأوائل منهم إلى الخارج، أساسا فرنسا، بمِنح حكومية، ويرسم الذين يلونهم في المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس بالمرحلة الطويلة».
وذكرت الدراسة أنه «تم وضع هذه السياسة آنذاك لفقدان الأساتذة المختصين في الدراسات الهندسية؛ إذ كان المدرسون للمواد العلمية والهندسية في تونس يأتوننا في إطار التعاقد من دول أوروبا الشرقية خاصة». ومنذ ذلك الحين «كونت الجامعة التونسية كثيرا من الإطارات والأساتذة الجامعيين في جميع الاختصاصات تقريبا، ثم رجع بعض النوابغ من الخارج بعد أن حصلوا على الدكتوراه بتفوق ليدرسوا في مدارس الهندسة التي بعثت في مختلف الجهات لأن الدينار التونسي آنذاك كان يساوي يوروين اثنين».
وكان على الحكومة أن تعتمد سياسة طموحا في التعليم العالي وتبعث مسارات خاصة بالطلبة النوابغ لتنهل منهم للعمل في التعليم العالي والبحث وتستعمل إمكاناتهم وذكاءهم لتطوير البلاد وبعث المشاريع والتخطيط الصحيح للمستقبل، كما تقول الدراسة.
لكنها اختارت مواصلة التعويل على الخارج ولم تكتفِ بمواصلة إرسال النوابغ بل بعثت معهدا جديدا في المرسى لتحضير الطلبة لمناظرات الدخول لمدارس الهندسة الفرنسية وجلبت لهم مدرسين من فرنسا يقبضون أجرا يعادل 5 مرات أجر التونسي، ليس ذلك فحسب بل أصبحت سياسة إفراغ الجامعة التونسية من نوابغها مثالا حذا حذوه مديرو مدارس الهندسة التونسية فقاموا بإرسال المتفوقين في مدارسهم ليرسبوا في السنة الثانية من المدارس الفرنسية ويتركوا لنا أقساما لا تشتمل على طالب واحد نابغة.
وبقي التعليم العالي في تونس يفتقد مسارا دراسيا يستوعب النخبة من النوع الذي تؤمنه كل دولة ذات سيادة في تعليمها العالي عندما تكون تطمح إلى رفع مستوى جامعاتها إلى مصاف الدول المتقدمة.
و«غياب هذا المسار من الجامعات التونسية جعل اعتبار الدراسة في الخارج هو الحل الوحيد للطلبة المتفوقين، الشيء الذي نشر الإحباط لدى الدارسين والمدرسين في تونس على حد سواء؛ لأن التعليم العالي في تونس أصبح وكأنه لا يهتم إلا بمن لا تؤهلهم نتائجهم للدراسة في الخارج، ونتج عن ذلك محاولة كل الطلبة والأولياء إرسال أبنائهم إلى الخارج بمن فيهم إطارات وزارة التعليم العالي».
وأصبح راسخا في عقول أغلبية التونسيين أن مستوى التعليم العالي في تونس لا يرتقي إلى مستوى ذكاء النوابغ وأنه لا يهتم إلا بالطلبة المتوسطين ولا يوفر ظروف عمل تساعد على العمل الجامعي الخلاق، ثم تؤكد الدراسة أن «إرسال الطلبة النوابغ إلى الدراسة الجامعية (المرحلتين الأولى والثانية) في الخارج له تداعيات سلبية على البلاد بأسرها».
وحذرت الدراسة من تداعيات هجرة الأدمغة؛ لأن الكثير من الدارسين في الخارج قد يفضلون البقاء في موطن الدراسة «إذا كانت أجرة المهندس في أوروبا تعادل من 5 إلى 10 مرات أجرة المهندس في تونس، فإن الطالب التونسي الذي درس مع زملائه الفرنسيين وقام بتربصات في شركات غنية ومتقدمة تكنولوجيا ووفرت له فرنسا ظروفا طيبة لمواصلة إقامته ليسهم في تفوق صناعتها ووجد في هذه الظروف أجرا يمكنه من زيارة أهله عدة مرات في السنة فإنه من الغباء بالنسبة له إن لم يبق هناك».
وفي الوقت نفسه «تستقدم تونس خبراء وأساتذة جامعيين، كما أشرنا سابقا، ليعملوا بأجور كبيرة إلى درجة لا يتخيلها التونسي»، ويضرب الباحث مثالا على ذلك فيقول: «عندما تستقدم تونس خبيرا من البنك الدولي درس في نفس المدارس التي درس فيها التونسي، وربما كان التونسي متفوقا عليه فإن الدولة تدفع له أجرا يساوي ألف دولار في اليوم، أي سبعة آلاف دولار في الأسبوع، زيادة على السكنى والمأكل والتنقل».
وقد أصدر المجلس الاقتصادي والاجتماعي الفرنسي تقريرا بعنوان «مقارنة عالمية لسياسات استقبال الطلبة الأجانب، أي أهداف؟ أي وسائل؟»، وعندما يتحدث فيه عن «هجرة الأدمغة» يعترف بأنه «على مستوى الكفاءات فإن خسارة الرأسمال البشري المتصلة بهجرة الطلبة النوابغ يمكن أن تكون فادحة بالنسبة لبلدانهم الأصلية».
من الواضح أن فائدة الدول الموردة للطلبة النوابغ لا تهتم إلا لمصلحتها الأنانية، ولكن «هل أن بلدنا واعٍ بأنه يسهم في توسيع الفجوة وزيادة عدم التوازن بيننا وبين الدول الأوروبية؟». أوروبا تجد اليوم نفسها في مشكلة كبيرة من ناحية نقص السكان، زِد على ذلك عزوف الطلبة الأوروبيين عن الدراسات العلمية «مما يجعلها تحاول تعويض نقصها بانتداب مهاجرين من الكفاءات العالية، فماذا تفعل تونس للدفاع عن البلاد؟».
وبلغة الأرقام تشير الدراسة إلى أنه في سنة 2004 كان لدينا 972 طالبا حاصلا على منحة للدراسة في المرحلتين الأولى والثانية بالخارج، وتبلغ تكلفتهم نحو 15 مليون دينار تونسي، وهو مبلغ مرتفع بالمقارنة مع ميزانيات مدارس الهندسة في تونس.
ولو استعمل هذا المبلغ كميزانية لمعهد يستقبل هؤلاء الألف من النوابغ لأمكن تدريسهم باستعمال أرقى الوسائل العلمية والبيداغوجية، ولأمكن استدعاء أساتذة حاصلين على جائزة نوبل لتدريسهم، ولأمكن تجهيز مكتبة علمية وأدبية ومدها بكل كتاب جديد يصدر في كل المواضيع التي تهم التعليم العالي في تونس، ولأصبح هذا المعهد مثالا للمعاهد الأخرى، ولمكنَّا هذا المبلغ من خلق مسار النخبة الذي تفتقده الجامعة.
ويمكننا أيضا أن نستخدم جزءا من هذه الأموال الطائلة لإرسال طلبة المرحلة الثالثة لأطروحات الدكتوراه في الاختصاصات التي لا نملك فيها تجهيزات ولا أساتذة بالقدر الكافي، لكن الوزارة تعطي منحا لطلبة المرحلتين الأولى والثانية (جزء منهم يتحصل على منحة بسبب القرابة وليس بسبب المعدل) أكثر مما تمنح طلبة المرحلة الثالثة (746 منحة سنة 2004).
وتحذر الدراسة من إفراغ الجامعات التونسية من النوابغ، وتكشف عن تداعيات ذلك تربويا: «إن إفراغ الجامعات التونسية من النوابغ يخفض المستوى العام للطلبة، الذين يحسبون معدل القسم في امتحان مادة معينة يعرفون جيدا أنك إذا سحبت معدل الطالب الحاصل على 19 من 20، فإن المعدل العام سوف يهبط، وهذا يبرهن على أن المستوى العام لجامعاتنا حكم عليه بالتخفيض في وقت يرتفع فيه مستوى الجامعات التي ترسل لها الدولة بالمال العام نوابغنا».
وترى الدراسة أن «وجود النوابغ بين زملائهم في الجامعات التونسية سوف يساعد الطلبة المتوسطين في رفع مستواهم بالاحتكاك بالأوائل، كما أن وجودهم في الجامعة سوف يجعل منها المكان الذي يقع فيه تكوين المفكرين العظام». التداعي الرابع الذي تقره الدراسة هو ما تصفه بـ«عقلية الرداءة»؛ إذ إن «الإحباط الناتج عن إفراغ الجامعات من النوابغ ينتج عقلية الرداءة في كل شيء مثل أن المكتبات تصبح في جامعاتنا عبارة عن مخزن للإعارة ولا يمكن للطالب فيها الوقوف أمام الرفوف وتصفح الكتب واحدا بعد آخر حتى يجد ضالته»، ومثل أن «التجهيزات في مخابر التدريس أكل عليها الدهر وشرب، ومثل أن عدد ساعات التدريس في الأسبوع مهول لا يمكن الطالب من المراجعة ومن استعمال المكتبة ومن استيعاب الدروس ومن التثقف، كل هذا لأننا نعتبر أن الطالب المتفوق يجد كل هذه الإمكانات والظروف في البلاد التي تملك تعليما عاليا حقيقيا ولم يبق لدينا في تونس إلا الطلبة المتوسطون».
وقال صاحب الدراسة الدكتور أحمد الصغير بوعزي لـ«الشرق الأوسط»: «لقد أدت سياسة الحكومة (طيلة الفترة التي أعقبت الاستقلال) فيما يخص الطلبة النوابغ إلى جعل انتداب الطلبة اليوم في أرقى مؤسساتنا (مدارس الهندسة ودار المعلمين العليا) يقع بعد الفشل: ترتب وزارة التعليم العالي الطلبة الحاصلين على البكالوريا وترسل أنجبهم إلى الخارج بمنحة وطنية، أما الذين يفشلون في هذا الفرز فيوجهون مؤقتا إلى المعهد التحضيري للدراسات العلمية والتقنية في المرسى لتحضير مناظرات الدخول إلى مدارس الهندسة الفرنسية، والذين ينجحون في المناظرة ترسلهم الوزارة إلى فرنسا بمنحة وطنية، والذين يفشلون في هذه المناظرات ولا ينجحون في مناظرات الدخول إلى أرقى مدارس الهندسة التونسية يشاركون في مناظرة الدخول إلى دار المعلمين العليا، أما الذين ينجحون في الدخول إلى مدارس الهندسة التونسية الراقية ويكونون متفوقين فيها فترسلهم الوزارة إلى فرنسا بمنحة وطنية ليرسبوا في السنة الثانية هناك ويواصلوا تعليمهم». وخلص إلى القول: «إن أرقى معاهد التعليم العالي لدينا لا تسلـم شهادات النجاح فيها إلا للطلبة الذين فشلوا 3 أو 4 مرات في محاولاتهم المتلاحقة للخروج إلى الخارج، والغريب في الأمر أن هذه السياسة قررتها وزارة التعليم العالي التونسية». وأردف: «إذا كان الفشل ينتج الإحباط لدى طلبتنا الذين لم ينجحوا في الهجرة، فإن سياسة وزارتنا هذه تنتج الإحباط لدى الأساتذة الذين يودون انتداب الطلبة المتفوقين في أقسامهم ورفع مستواها مثلهم مثل الأساتذة الفرنسيين الذين يأتون سنويا إلى بلادنا لمراودة المسؤولين والطلبة بهدف انتداب أذكى الأذكياء لرفع مستوى أقسامهم وتعليمهم العالي، وبالمناسبة تخفيض مستوى تعليمنا».




المصدر
http://aawsat.com/details.asp?section=54&article=653243&issueno=12062

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق